عرض المقالة

رسالة في تفسير سورة العصر

صفية الشقيفي
هيئة الإدارة

0
15334
0
0
0
1

غير مصنف

غير مراجَع


رسالة في تفسير سورة العصر



بسم الله والصلاة والسلام على خير خلق الله ومعلم الناس الهدى، محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فهذه رسالة في تفسير سورة العصر، أسأل الله فيها التوفيق والسداد، فما كان من حقٍ فيما ذكرت فمن الله، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.


نزلت سورة العصر في مكة حيث عناد المشركين وتجبرهم واستضعافهم جماعة المؤمنين، وحيث حاجة المؤمنين للثبات والصبر أمام فتنة المشركين وتربصهم بهم.
فنزلت على صفة القرآن المكي، وجيزة الألفاظ وافرة المعاني، قوية الأسلوب شديدة الخطاب، فارقة بين أهل الحق وأهل الباطل، بين الخاسرين والفائزين، جمعت بين معاني الترغيب والترهيب، إذ بين الله فيها للإنسان منهجًا باتباعه نجاته وبمخالفته هلاكه، لذا قال عنها الشافعي -رحمه الله-:
" لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" (1)
والقول بمكية السورة رواه ابن مردويه عن ابن عباس كما في الدر المنثور للسيوطي، وعليه جمهور المفسرين.
وكان من هدي الصحابة رضوان الله عليهم أن يقرؤوها عند الفراق تذكيرًا بما فيها من المعاني.
عن أبي مدينة الدارمي - رضي الله عنه- قال: " كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا، وأرادا أن يتفرقا، قرأ أحدهم سورة: والعصر إن الإنسان لفي خسر، ثم سلم أحدهما على الآخر أو على صاحبه ثم تفرقا ". رواه أبو داوود في الزهد والطبراني في المعجم الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي مدينة الدارمي مرفوعا، وصحح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة.
ولا يتصور أن يلتزم الصحابة أمرًا ولا يكون لهم في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحري بنا أن نتوقف طويلا أمام معانيها، لعلنا نهتدي بهديها ونستن بسنة خير القرون؛ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ونتواصى بها دبر كل مجلس!
ولأن موضوع هذه السورة هو الإنسان، وما يكون به نجاته من الخسران، جاءت الآيات مؤكدة بالقسم، تحقيقًا للخبر، وتأكيدًا للحجة على الناس؛ كافرهم ومؤمنهم،
فأقسم الله عز وجل بالعصر، والله عز وجل يقسم بما شاء، وليس لأحد من خلقه القسم إلا به سبحانه ؛ لأن القسم فيه نوع تعظيم للمقسم به ولا يحل لأحد تعظيم مخلوق فوق الله تعالى، والله عز وجل فوق كل شيء وقسمه بالمخلوق دليل عليه سبحانه، إذ لا يُتصور وجود مخلوق بدون خالق، ومصنوع بدون صانع !
وفي قسمه سبحانه بالمخلوق تشريفٌ لهذا المخلوق.

و كلمة العصر من المشترك اللفظي في اللغة، والمشترك اللفظي هو اللفظ الذي يستخدم لعدة معان، فتأتي كلمة العصر لغة على عدة معان، منها:
الأول: الدهر: ويشهد له ما قاله امرؤ القيس:
(ألا انعَمْ صباحاً أيُها الطلل البالي ... وهل ينعَمَنْ مَنْ كانَ في العُصُرِ الخالي) (2)
العُصُر تثقيل عصر.

الثاني: العشي، وهو آخر ساعة من النهار،
قال الحارث بن حلزة :
(أنَسَتْ نبأةً وأَفْزَعَها القَنْنَاصُ ... عَصْراً وقد دنا الإِمساءُ) (3)
ويقال العصران الليل والنهار قال حميد بن ثور :
ولا يَلْبِثُ العَصْرَانِ يوماً وليلةً ... إذا اختلفا أن يدركا ما تيمّما (4)

الثالث: مصدر (عَصَرَ) ومنه عصر العنب، قاله ابن السِّكيت. (5)

ولهذا اختلف السلف وأهل اللغة في تعيين المراد بكلمة العصر في الآية على أقوال:
القول الأول: الدهر، وهو قول الفراء وابن قتيبة وأبي بكر ابن الأنباري وأبي منصور الأزهري ومكي بن أبي طالب، وهو اختيار ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن.
ويلحق بهذا القول تخصيص الزمان بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، تنبيهًا على فضله وشرفه وإنذارًا للمشركين المعرضين، وتثبيتًا للمؤمنين، ذكر هذا القول فخر الدين الرازي وابن عادل والألوسي وابن عاشور.

القول الثاني: العشي وهو قول الحسن، ورواية عن ابن عباس.
قول الحسن رواه عبد الرزاق عن معمر عنه، ورواه وابن جرير من طريق ابن ثور عن معمر عن الحسن.
رواية ابن عباس رواها ابن المنذر كما في الدر المنثور.
ويلحق بهذا القول رواية عن ابن عباس وقتادة (ساعة من ساعات النهار)
قول ابن عباس رواه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
قول قتادة رواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة.

ويلحق به أيضأ القول بأن المراد بالعصر: صلاة العصر، وهو قول مقاتل، قاله في تفسيره، وقدمه الزمخشري وتبعه النسفي، وذكره ابن جزي الكلبي احتمالا وغيرهم.
وتوجيه هذا القول أن صلاة العصر هي الصلاة المخصوصة بوقت العشي، وأن التعريف في (العصر) للعهد، وقد اشتُهِر إطلاق (العصر) على هذه الصلاة.
وأقسم الله عز وجل بها لشرفها وفضلها؛ ومنه أنها الصلاة الوسطى التي أوصى الله بها، قال تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}
عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : (ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس). رواه البخاري.
وفي مسند الإمام أحمد بلفظ: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)
وقال صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فقد وتر ماله وأهله). رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد.
وأشار أبو بكر البقاعي إلى مناسبة أخرى بين القسم بزمان ساعة العشي والمقسم به فقال: ({والعصر *} أي الزمان الذي خلق فيه أصله آدم عليه الصلاة والسلام وهو في عصر يوم الجمعة كما ورد في الحديث الصحيح في مسلم) اهـ.
يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وخلق الله آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة). رواه مسلم.

الدراسة والترجيح:
كلمة العصر من المشترك اللفظي الذي يحتمل عدة معان، واستعمال كلمة العصر بمعنى الدهر أو العشي معروفٌ في لغة العرب كما سبق بيانه،
وقد جمع قطرب بين المعنيين وذكر احتمال الآية لكليهما قال: (وقالوا: العَصْرُ العَشِيُّ. يُقالُ: أَتَيْتُكَ عَصْراً أَيْ عَشِيّاً.
وقولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {والعَصْرِ إنَّ الإنسانَ لفي خُسْرٍ} يكونُ على ذلكَ وعلى الدَّهْرِ. يُقالُ: مَضَى عَصْرٌ من الدهرِ وعُصْرٌ)
(6)
وتخصيص بعض الأحوال التي تتأتى على معنى أي منهما لا يعني انتفاء احتمال الآية للمعنى الأعم بل فيه زيادة تأكيد على فضل المخصوص وشرفه.
وفي الجمع بين الأقوال مزيد فائدة - والله أعلم -، ففيه إشارة إلى أن الزمان وإن قصر في ساعة من نهار أو يوم وليلة، أو طال في معنى (الدهر) لا يصلح إلا بتعميره باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك صلاة العصر، وفي هذا تقدمة لما دلّ عليه جواب القسم في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، والله أعلم.
تفسير قول الله عز وجل: {إن الإنسان لفي خسر}
جاء جوابُ القسم مؤكدًا بإنّ ولام التوكيد {لفي} زيادةً في التأكيد على تحقيق الخبر وكمال الحجة على المخاطبين، خاصةً من أنكر منهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكذّب بالقرآن.
{الإنسان}
مفردٌ أُريد به الجمع، أي (الناس كلهم)، وذلك لدلالة التعريف فيه بـأل على الاستغراق، وهو قول محمد بن كعب القرظي وأبو عبيدة والمبرد وابن جرير الطبري والزجاج وابن الأنباري والنحاس والزمخشري والبيضاوي وغيرهم.
قال محمد بن كعب القرظي: ({إن الإنسان لفي خسر} قال الناس كلهم). رواه عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عنه، ورواه ابن المنذر وعبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي.
وقال مكي بن أبي طالب في العمدة في غريب القرآن: (الناس إلا النبيين).
وقال الواحدي في الوجيز: الكافر العامل لغير طاعة الله، وخصصه بأبي جهل، ونسب هذا القول لابن عباس، ورواية ابن عباس رواها ابن مردويه عن ابن عباس كما في الدر المنثور.
بينما خصصه ابن عادل بالوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى والأسود بن عبد يغوث، وعزاه إلى رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم أجده بهذا اللفظ في مصدر مسند ورواية الضحاك عن ابن عباس منقطعة، على العموم.

والراجح دلالة {الإنسان} على عموم الناس، بدليل الاستثناء في الآية التالية: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}
ولا حاجة لاستثناء النبيين لأنهم داخلون في المستثنى بتحقيقهم الوصف المذكور في قول الله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}
وأما تخصيص الإنسان بالكافر، أو بكافر معين، وحمل الاستثناء مع ذلك على الانقطاع، فلا دليل صحيح عليه ومخالف لما عليه جمهور المفسرين وأهل اللغة.
والكافر داخل في عموم الآية، ويتحقق فيه معنى الخسارة الكاملة على ما سيأتي بيانه بإذن الله.
{لفي خسر}
والخسر في اللغة هو النقصان، قاله الخليل ابن أحمد وأبو عبيدة وابن قتيبة وأبو منصور الأزهري وأحد قولي مكي بن أبي طالب.
وقيل الهلاك، وهو قول آخر لمكي بن أبي طالب، ونسبه الماوردي للسدي ولم أجده في مصدر مسند.
وجمع بين القولين ابن كثير، ومن لازم حصول النقص حصول الهلاك.

ثم اختُلف في المراد بالنقصان الذي يحصل لعموم الناس على أقوال:
القول الأول: أن الإنسان لا يزال يُنقص من عمره في الدنيا حتى يرد إلى الهرم والضعف فيضعف عن الطاعات، فمن تحقق فيه وصف المستنثى، أجرى الله له أجره على ما كان يعمل ولم ينقصه شيئا، وهو مروي عن إبراهيم النخعي، وقال به أبو عبيدة معمر بن المثنى في تأويل مشكل القرآن.
- رواية إبراهيم النخعي: رواها عبد بن حميد كما في الدر المنثور للسيوطي -
وهذا بمعنى قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}
واستدل أبو عبيدة بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«قال الله للكرام الكاتبين: إذا مرض عبدي فاكتبوا له ما كان يعمل في صحته، حتى أقبضه أو أعافيه»، وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو من مراسيل عطاء، وصحح الألباني إسناده إلى عطاء في صحيح الجامع.

ويشهد لمعناه الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن إبراهيم أبي إسماعيل السكسكي، قال: سمعت أبا بردة، واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: سمعت أبا موسى مرارا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «‌إذا ‌مرض ‌العبد، ‌أو ‌سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا».

القول الثاني: عقوبة بذنوبه، وأن يخسر أهله، ومنزله في الجنة، وهو قول الفراء.
القول الثالث: دخول النار وهو قول أبي جعفر النحاس، وهو من لازم قول الفراء.
القول الرابع: أن لفظ الآية على عمومها وأن الخسر هنا ملازم للناس في حياتهم وحتى مماتهم وما يلقونه من جزاء في الآخرة.
ومعناه أنهم في خسران في مساعيهم وصرف أعمارهم في غير طاعة الله، وهو قول الزجاج و أبي المظفر السمعاني والبغوي وابن الجوزي والبيضاوي وأبي السعود والألوسي وغيرهم.
والتحقيق أن الخسر هو النقصان، ومن النقصان ذهاب رأس المال، ورأس مال الإنسان هو عمره، فإذا ضيّعه فيما لا ينفعه في دنياه وآخرته فقد هلك وخسر دنياه وآخرته؛ وحقيقة ما ينفع في الدنيا والآخرة هو ما كان في طاعة الله عز وجل ابتغاء مرضاة الله عز وجل.
وهو المذكور في وصف المستثنى في قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} على ما سيأتي بيانه بإذن الله.
وعلى قدر إتيان الإنسان بهذا الوصف يكون نصيبه من الخسارة والربح؛ فالكافر يتحقق له الخسار المطلق لأنه لم يحقق وصف الإيمان بداية وأعماله كلها وإن حصل فيها من الصلاح شيء فليست لله عز وجل فتصير يوم القيامة هباء منثورًا كما قال تعالى: {وقدِمنا إلى ما عمِلوا من عملٍ فجعلناهُ هباء منثورًا}
وأما المؤمنون، فهم على درجات، فكلما كان نصيب المؤمن أوفر من وصف من استثناهم الله من الخسار {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} كلما كان أكثر ربحًا وعن الخسارة أبعد.
ومن أنفق عمره في طاعة الله، ثم عرض له في آخره ضعف وعجز كان من فضل الله عليه أن يُجري له أجر ما كان يعمل، فلا ينقطع أجره.
وبهذا يتبين وجه الجمع بين الأقوال السابقة وتلازمها، فمن أنفق عمره في معصية الله، لن يجد حال عجزه عن الطاعات في مرضه أو عجزه أجرًا إلا على ما قدّم من عمل صالح، فخسِر أولا بتضييع عمره فيما يضره من معصية الله، وخسِر آخرًا أجر المؤمنين على ما قدموا من أعمال صالحة حال عافيتهم فأجرى الله لهم الأجر – من غير عمل – حال عجزهم، وخسر في الآخرة بما يلقاه من عقوبة على ذنوبه، وخسارة لمنزلته في الجنة، فإذا لم يغفر الله له، عُذّب بمقدار ذنوبه في النار ثم يدخل الجنة بإذن الله عز وجل، تحقيقًا لوعد الله عز وجل بأنه لا يخلد في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
وفي حديث الشفاعة يقول الله عز وجل: (أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) رواه مسلم في صحيحه.


وقال الله عز وجل {لفي خسر} بدلا من استخدام صيغة الفاعل مثل (لخاسر) لدلالة في الظرفية – والله أعلم - على إحاطة الخسر به من كل جانب، وبيان ذلك: أن الإنسان لا ينفك عن الخسارة، فأوقاته ما بين معصية، وتحقق الخسارة معها واضح، أو مباحات لا ثواب عليها، وما يأتي به من الطاعات فكان من الممكن أن يأتي بها على وجه أكمل بتحقيق الإحسان فيها، وتركه للمرتبة الأعلى فيه نوع خسران، وإن حقق الإحسان في بعض المواضع ربما فاته مواضع أخرى.
والمقصود أن على الإنسان الاجتهاد في تحصيل أعلى المراتب والنجاة من الخسران، والله المقصود أن يغفر له تقصيره، وأن يجبره.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُنَجِّيَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ برَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا..) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).
والمقصود من هذه الأحاديث أن التوفيق إلى الهداية والعمل الصالح، ودخول الجنة لا يكون إلا برحمة من الله عز وجل، فالمطلوب من الإنسان أن يجتهد ويسدد ويقارب ليحقق ذلك.
وليس معنى هذه الأحاديث أن يترك الإنسان العمل، بل معناها أن عمل الإنسان مهما عظم فهو لا يساوي نعيم الجنة الذي سيلقاه في الآخرة ولولا رحمة من الله تناله لما وصل إليه - والله أعلم -.
ومما سبق يتبين لنا دلالة تنكير كلمة (خسر) على التنويع، لبيان أنواع الخسر، كما دلت على التهويل والتعظيم بمجيئها في سياق القسم.
ويتبين لنا أيضًا فائدة تأكيد خبر إنّ باللام {لفي خسر} للتهويل، والإنذار بالحالة العامة المحيطة بالناس، قاله ابن عاشور.

ثم استثنى الله عز وجل من عموم الناس {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}
وجاء المستثنى منه مخبرًا عنه بذكر الجزاء وهو الخسارة {إن الإنسان لفي خسر}، بينما جاء المستثنى ببيان وصف أفعالهم؛ وفي هذا نوع احتباك، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ليسوا بخاسرين، بل رابحين.
والخاسرون فرطوا في هذا الوصف إما بصورة مطلقة في الكافرين، وإما بوجه دون وجه وهذا في عموم المؤمنين، ومن أكمل الأمور الأربعة سلم من الخسار وفاز بالربح.
والدليل على أنه يشترط تكميل الأمور الأربعة للنجاة من الخسران ما رواه عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد قال سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: في قوله تعالى: ({والعصر} قال: قسم أقسم به ربنا تبارك وتعالى:{إن الإنسان لفي خسر} قال الناس كلهم ثم استثنى فقال: {إلا الذين آمنوا} ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: {وعملوا الصالحات} ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: {وتواصوا بالحق} ثم لم يدعهم وذاك حتى قال: {وتواصوا بالصبر} شروطا يشترط عليهم).
والعطف في هذه الآية من باب عطف الخاص على العام، فالعمل الصالح داخل في معنى الإيمان المذكور في قوله {الذين آمنوا}، والتواصي بالحق من العمل الصالح، والتواصي بالصبر من الحق الذي أمر الله بالتواصي به.
وفائدة عطف الخاص على العام التنبيه عليه والتأكيد على دخوله في الأمر.
وإذا اعتبرنا أن العطف في الآية دالٌ على المغايرة فلابد من التأكيد على أن كل صفة تأتي على وصفها الكامل؛ فالإيمان ها هنا يقصد به تصديق الله عز وجل والإقرار بطاعته قولا وعملا واعتقادًا.

والعمل الصالح كل ما أمر الله به من الطاعات الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة؛ ما كان منها في حق الله عز وجل، وما كان في حق عباده، ويدخل فيه ترك السيئات
والتواصي بالحق وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فيدخل فيه التواصي بكتاب الله، كما رواه عبد الرزاق وابن جرير من طريق معمر عن الحسن به، ورواه كذلك ابن جرير من طريق سعيد عن قتادة به.
وقُيّد التواصي بكونه بالحق، فإذا كان بغير الحق فهو من البلاء، وفي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يفرق به المرء بين الحق والباطل.
والتواصي بالصبر المقصود به التواصي بالصبر على الطاعات والصبر عن المحرمات والصبر على أقدار الله المؤلمة، ومن ذلك أيضًا الصبر على ما يلقاه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى في سبيل الله.
فإذا تبين ذلك، فلا يصح قول من قال أن العطف بين الإيمان والعمل الصالح دالٌ على أن العمل غير داخل في مسمى الإيمان، فإن ذلك ثابتٌ بدليل الكتاب والسنة، - منها على سبيل المثال –
تعليق بعض الأعمال في كتاب الله عز وجل على شرط الإيمان مثل قول الله تعالى:
{اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (سورة البقرة: 278)
وقوله تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} (سورة الأنفال: 1)
ويدل عليه أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم : (الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم.
فجمع في هذا الحديث بين القول والعمل، وجمع بين عمل القلب وهو الحياء وعمل الجوارح وهو إماطة الأذى عن الطريق.
بل استدل بآية سورة العصر الآجري في الشريعة على أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، وعلى ذلك عامة أهل السنة ولله الحمد.
وبتحقيق الإيمان والعمل الصالح يكمل الإنسان نفسه، إلا أن الإسلام لم يكتفِ بصلاح الإنسان لنفسه، بل لابد وأن يكون مُصلحًا فيما حوله؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات المسلم، كل بحسب ما يستطيعه، إما بيده أو بلسانه شرط ألا يؤدي ذلك إلى حصول منكر أعظم، فإن كان الأمر كذلك فوجب الإنكار بالقلب وهو واجبٌ على كل مسلم وهو أضعف الإيمان.
كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من رَأى مُنكَرًا، فإنِ استَطاعَ أنْ يُغيِّرَه بيَدِه، فإنْ لم يَستَطِعْ فبِلِسانِه، فإنْ لم يَستَطِعْ فبِقَلْبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ) أخرجه مسلم ، وأبو داود، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه، وأحمد واللفظ له.
وذلك لأن المؤمن يعرض له من العوارض ما يضعفه، ويثبطه عن الإيمان والعمل الصالح؛ فلكل إنسان أعداؤه المتربصون به من النفس الأمارة بالسوء وشياطين الإنس والجن يزينون له الباطل بل ويلبسونه ثوب الحق، أو يصدونه عن الحق ويؤذونه بكل كبير وصغير ليرجع عنه، فإذا لم يكن في الجماعة المؤمنة تواص بالحق وتذكير به وتواص بالصبر على طاعة الله وعلى الأذى في سبيل الله، فقد سلم بعضهم بعضًا لأعدائهم!
ولفظ التواصي على صيغة التفاعل التي تفيد وقوع الفعل من الطرفين، دلالة على حاجة كل إنسان للآخر لتحقيق هذا الأمر !!

ويشبه هذا المعنى قول الله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}
وبتحقيق التواصي بالحق والتواصي بالصبر يكمل الإنسان غيره، ويجد في الجماعة المؤمنة من يكمله.
وبهذا يتبين لنا المنهج الذي بينه الله لنا في هذه السورة، والذي به يتحقق الربح والنجاة من الخسارة.
والمتأمل لهذه الأمور الأربعة ولواقع الأمة حاليًا ومدى تقصيرها في تحقيق هذه الأمور علِم من أين حصل لنا الخسار، وبعد عنا الربح، ولا نجاة حقيقة إلا باتباع ما أمر الله به.

كما قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعًا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
ويتبين لنا كذلك سبب حرص الصحابة رضوان الله عليهم على قراءة هذه السورة عند التفرق من كل مجلس.
فاللهم اجعلنا ممن استمع القول فاتبع أحسنه، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وانفع بنا، والله المستعان وعليه التكلان ولاحول ولا قوة إلا به.

_____________________________________________________
(1) تفسير الإمام الشافعي، الجزء الثالث، صفحة 1461.
(2) الزاهر في معاني كلمات الناس لأبي بكر ابن الأنباري، الجزء الثاني، صفحة 171.
(3) الزاهر في معاني كلمات الناس لأبي بكر ابن الأنباري، الجزء الثاني، صفحة 170.
(4) العين للخليل بن أحمد، الجزء الأول، صفحة .293
(5) إصلاح المنطق لابن السكيت، صفحة 38.
(6) الأزمنة وتلبية الجاهلية، صفحة 58.



__________________________________________
هذه الرسالة كانت ضمن واجبات دورة مهارات النقد العلمي للشيخ عبد العزيز الداخل، وكتبتها بتاريخ 3 رجب 1442ه، الموافق 14 فبراير2021، وحدثتها اليوم الأحد 3 جمادى الأولى من عام 1444 هـ، الموافق 27 نوفمبر 2022، وفق ملحوظات التصحيح للشيخ حفظه الله.

التعليقات ()

أشهر المقالات
يبدو أن هذه المقالات ستعجبك

التعريف ببرنامج ال...

التعريف ببرنامج التأسيس في...

رسالة في تفسير قول...

رسالة في تفسير قوله تعالى : { يا أيها...

كلمة في أسباب نجاح...

بسم الله الرحمن الرحيم أسباب نجاح...

فلما تنسّخ العلم ع...

بسم الله الرحمن الرحيم* الحمد لله...

تأملات في قول الله...

تأملات في قول الله تعالى:{بل نقذف...

التواني في طلب الع...

شماعة المعوقات: التواني في طلب العلم...